فصل: ومن باب كراهية التمادح:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم السنن



.ومن باب كراهية التمادح:

قال أبو داود: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا وكيع حدثنا سفيان عن منصور عن إبراهيم عن همام قال: «جاء رجل فأثنى على عثمان رضي الله عنه في وجهه فأخذ المقداد بن الأسود ترابًا فحثا في وجهه وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب».
قال الشيخ: المداحون هم الذين اتخذوا مدح الناس عادة وجعلوه بضاعة يستأكلون به الممدوح ويفتنونه، فأما من مدح الرجل على الفعل الحسن والأمر المحمود يكون منه ترغيبًا له في أمثاله وتحريضًا للناس على الاقتداء به في أشباهه فليس بمداح وإن كان قد صار مادحًا بما تكلم به من جميل القول فيه.
وقد استعمل المقداد الحديث على ظاهره وحمله على وجهه في تناول عين التراب بيده وحثيه في وجه المادح.
وقد يتأول أيضًا على وجه آخر وهو أن يكون معناه الخيبة والحرمان أي من تعرض لكم بالثناء والمدح فلا تعطوه واحرموه. كني بالتراب عن الحرمان كقولهم ما له غير التراب وما في يده غير التَيْرب، وكقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا جاءك يطلب ثمن الكلب فاملأ كفه ترابًا»، وكقوله: «وللعاهر الحجر» ومثله كثير في الكلام.
قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا بشر، يَعني ابن المفضل حدثنا أبو مسلمة سعيد بن يزيد، عَن أبي نضرة عن مطرف قال: قال أبي «انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا أنت سيدنا، فقال السيد الله عز وجل قلنا وأفضلنا فضلًا وأعظمنا طَولًا، قال فقولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يستجرينكم الشيطان».
قال الشيخ: قوله: «السيد الله» يريد أن السؤدد حقيقة لله عز وجل وأن الخلق كلهم عبيد له، وإنما منعهم فيما نرى أن يدعوه سيدًا مع قوله: «أنا سيد ولد» آدم وقوله لبني قريظة «قوموا إلى سيدكم» يريد سعد بن معاذ من أجل أنهم قوم حديث عهدهم بالإسلام وكانوا يحسبون أن السيادة بالنبوة كهي بأسباب الدنيا وكان لهم رؤساء يعظمونهم وينقادون لأمرهم ويسمونهم السادات فعلمهم الثناء عليه وأرشدهم إلى الأدب في ذلك. فقال: «قولوا بقولكم». يريد قولوا بقول أهل دينكم وملتكم وادعوني نبيًّا ورسولًا كما سماني الله عز وجل في كتابه فقال {يا أيها النبي}، {يا أيها الرسول} ولا تسموني سيدًا كما تسمون رؤساءكم وعظماءكم ولا تجعلوني مثلهم فإني لست كأحدهم إذ كانوا يَسُودونكم بأسباب الدنيا وأنا أسودكم بالنبوة والرسالة فسموني نبيًّا ورسولًا.
وقوله: «بعض قولكم» فيه حذف واختصار ومعناه دعوا بعض قولكم واتركوه يريد بذلك الاقتصار في المقال. قال الشاعر:
فبعض القول عاذلتي فإني ** سيكفيني التجارب وانتسابي

وقوله: «لا يستجرينكم الشيطان» معناه لا يتخذنكم جَرِيًّا والجري الوكيل ويقال الأجير أيضًا.

.ومن باب في الرفق:

قال أبو داود: حدثنا أبو بكر وعثمان ابنا أبي شيبة ومحمد بن الصباح البزاز قالوا حدثنا شريك عن المقدام بن شريح عن أبيه قال: «سألت عائشة رضي الله عنها عن البداوة فقالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبدو إلى هذه التِّلاع وأنه أراد البداوة مرة فأرسل إليَّ ناقة مُحرَّمة من إبل الصدقة فقال لي يا عائشة ارفقي فإن الرفق لم يكن في شيء قط إلاّ زانه ولا نزع من شيء قط إلاّ شانه».
قال الشيخ: البداوة الخروج إلى البادية والمقام بها وفيها لغتان فتح الباء وكسرها والتلاع مجاري الماء من فوق إلى أسفل واحدتها تلعة.
والمحرمة هي التي قد اقتضبت ركوبها لم تذلل ولم ترض، ومن هذا قولهم أعرابي محرم إذا كان أول ما يدخل المصر لم يخالط الناس ولم يجالسهم.

.ومن باب شكر المعروف:

قال أبو داود: حدثنا مسلم بن إبراهيم حدثنا الربيع بن مسلم عن محمد بن زياد، عَن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يشكر الله من لا يشكر الناس».
قال الشيخ: هذا الكلام يتأول على وجهين أحدهما أن من كان طبعه وعادته كفران نعمة الناس وترك الشكر لمعروفهم كان من عادته كفران نعمة الله وترك الشكر له سبحانه.
والوجه الآخر أن الله سبحانه لا يقبل شكر العبد على إحسانه إليه إذا كان العبد لا يشكر إحسان الناس ويكفر معروفهم لاتصال أحد الأمرين بالآخر.
قال أبو داود: حدثنا عبد الله بن الجراح حدثنا جرير عن الأعمش، عَن أبي سفيان عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أُبلي فذكره فقد شكره وإن كتمه فقد كفره».
الإبلاء الإنعام ويقال أبليت الرجل وأبليت عنده بلاء حسنًا قال زهير:
فأبلاهما خير البلاء الذي يبلوا

.ومن باب في التحلق:

قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن الأعمش حدثنا المسيب بن رافع عن تميم بن طَرفة عن جابر بن سمرة قال: «دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد وهم حِلَق فقال ما لي أراكم عِزينَ».
قال الشيخ: قوله: «عزين» يريد فرقًا مختلفين لا يجمعكم مجلس واحد.
وواحد العزين عزة يقال عزة وعزون كما قالوا ثِبة وثبون، ويقال أيضاَ ثبات وهي الجماعات المتميزة بعضها عن بعض.
قال أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا أبان حدثنا قتادة حدثني أبو مجلز عن حذيفة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن من جلس وسط الحلقة».
قال الشيخ: هذا يتأول فيمن يأتي حلقة قوم فيتخطى رقابهم ويقعد وسطها ولا يقعد حيث ينتهي به المجلس فلعن للأذى، وقد يكون في ذلك أنه إذا قعد وسط الحلقة حال بين الوجوه وحجب بعضهم من بعض فيتضررون بمكانه وبمقعده هناك.

.ومن باب من يؤمر أن يُجالس:

قال أبو داود: حدثنا عمرو بن عون أنبأنا ابن المبارك عن حيْوة بن شُريح عن سالم بن غَيلان عن الوليد بن قيس عن أبى سعيد أو، عَن أبي الهيثم، عَن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تصاحب إلاّ مؤمنًا ولا يأكل طعامك إلاّ تقي».
قال الشيخ: هذا إنما جاء في طعام الدعوة دون طعام الحاج وذلك أن الله سبحانه قال: {ويطعمون الطعام على حبه مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا} [الإنسان: 8] ومعلوم أن أسراهم كانوا كفارًا غير مؤمنين ولا أتقياء.
وإنما حذر من صحبة من ليس بتقي وزجر عن مخالطته ومؤاكلته فإن المطاعمة توقع الألفة والمودة في القلوب يقول لا تؤالف من ليس من أهل التقوى والورع ولا تتخذه جليسًا تطاعمه وتنادمه.
قال أبو داود: حدثنا هارون بن زيد بن أبي الزرقاء حدثنا أبي حدثنا جعفر، يَعني ابن برقان عن يزيد بن الأصم، عَن أبي هريرة يرفعه قال: «الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف».
قال الشيخ: معنى الحديث الإخبار عن مبدأ كون الأرواح وتقدمها الأجساد التي هي ملابستها على ما روي في الحديث: «إن الله خلق الأرواح قبل الأجساد بكذا كذا عامًا» فأعلم النبي صلى الله عليه وسلم أنها خلقت أول ما خلقت على قسمين من ائتلاف أو اختلاف كالجنود المجندة إذا تقابلت وتواجهت.
ومعنى تقابل الأرواح ما جعلها الله عليه من السعادة والشقاوة في مبدأ الكون والخلقة كما روي في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الملك إذا أراد أن ينفخ الروح في النسمة قال يا رب أسعيد أم شقي، أكافر أم مؤمن». يقول صلى الله عليه وسلم إن الأجساد التي فيها الأرواح تلتقي في الدنيا فتأتلف وتختلف على حسب ما جعلت عليه من التشاكل أو التنافر في بدء الخلقة ولذلك ترى البَر الخير يحب شكله ويحن إلى قربه وينفر عن ضده، وكذلك الرَّهِق الفاجر يألف شِكله ويستحسن فعله وينحرف عن ضده.
وفي هذا دليل على أن الأرواح ليست بأعراض وأنها كانت موجودة قبل الأجساد وأنها تبقى بعد فناء الأجساد ويؤيد هذا المعنى قوله صلى الله عليه وسلم: «أرواح الشهداء في صور طير خضر تَعلق من ثمر الجنة».

.ومن باب في كراهية المراء:

قال أبو داود: حدثنا مسدد حدثنا يحيى عن سفيان حدثني إبراهيم بن المهاجر عن مجاهد عن قائد السائب قال: «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فجعلوا يثنون عليّ ويذكرونني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أعلمكم، يَعني به فقلت صدقت بأبي وأمي كنت شريكي فنعم الشريك كنت لا تُداري ولا تُماري».
قال الشيخ: قوله: «لا تداري» يَعني لا تخالف ولا تمانع، وأصل الدرء الدفع يصفه صلى الله عليه وسلم بحسن الخلق والسهولة في المعاملة.
وقوله: «لا تماري» يريد المراء والخصومة.

.ومن باب الهدي في الكلام:

قال أبو داود: حدثنا أبو توبة قال زعم الوليد عن الأوزاعي عن قُرة عن الزهري، عَن أبي سلمة، عَن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم».
قال الشيخ: قوله: «أجذم» معناه المنقطع الأبتر الذي لا نظام له وفسره أبو عبيد فقال الأجذم المقطوع اليد.
وقال ابن قتيبة الأجذم بمعنى المجذوم في قوله صلى الله عليه وسلم: «من تعلم القرآن ثم نسيه لقي الله وهو أجذم».

.ومن باب جلوس الرجل:

قال أبو داود: حدثنا حفص بن عمر وموسى بن إسماعيل قالا: حَدَّثنا عبد الله بن حسان العنبري حدثتني جدتاي صفية ودُحيبة ابنتا عليبة وكانتا ربيبتي قيلة بنت مخرمة وكانت جدة أبيهما أنها أخبرتهما «أنها رأت النبي صلى الله عليه وسلم وهو قاعد القرفصاء» وذكر الحديث.
القرفصاء جلسة المحتبي وليس هو الذي يحتبي بثوبه لكنه الذي يحتبي بيديه.

.ومن باب التناجي:

قال أبو داود: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو معاوية عن شقيق عن الأعمش عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإن ذلك يحزنه».
قال الشيخ: إنما يحزنه ذلك لأحد معنيين إحداهما أنه ربما يتوهم أن نجواهما إنما هو لتبييت رأي فيه أو دسيس غائلة له.
والمعنى الآخر أن ذلك من أجل الاختصاص بالكرامة وهو محزن صاحبه.
وسمعت ابن أبي هريرة يحكي، عَن أبي عبيد بن حرب أنه قال هذا في السفر وفي الموضع الذي لا يأمن الرجل فيه صاحبه على نفسه. فأما في الحضر وبين ظهراني العمارة فلا بأس به والله أعلم.

.ومن باب إذا قام من مجلسه ثم رجع:

قال أبو داود: حدثنا قتيبة حدثنا الليث عن ابن عجلان عن سعيد المقبري، عَن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قعد مقعدًا لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله تِرة».
قال الشيخ: أصل الترة النقص ومعناها هاهنا التبعة يقال وترت الرجل ترة على وزن وعدته عدة، ومنه قول الله سبحانه: {ولن يتركم أعمالكم} [محمد: 35].
وقد روي في هذا الحديث من طريق آخر ما من قوم يقومون عن مجلس لا يذكرون الله إلاّ قاموا عن مثل جيفه وكان لهم حسرة.

.ومن باب في الحذر:

قال أبو داود: حدثنا محمد بن يحيى بن فارس حدثنا نوح بن يزيد بن سيار المؤدب حدثنا إبراهيم بن سعد قال حدثنيه ابن إسحاق عن عيسى بن معمر عن عبد الله بن عمر بن الفغواء الخزاعي عن أبيه قال: «دعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أراد أن يبعثني بمال إلى أبي سفيان يقسمه في قريش بمكة بعد الفتح، فقال التمس صاحبًا قال فجاءني عمرو بن أمية الضمري فقال بلغني أنك تريد الخروج وتلتمس صاحبًا قلت أجل قال فأنا لك صاحب، قال فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال إذا هبطت بلاد قومه فاحذره فإنه قد قال القائل أخوك البكري فلا تأمنه وذكر القصة إلى أن قال فشددت على بعيري حتى خرجت أوضعه حتى إذا كنت بالأصافر إذا هو يعارضني في رهط قال وأوضعت فسبقته».
قال الشيخ: الإيضاع الإسراع في السير، وقوله أخوك البكري فلا تأمنه مثل مشهور للعرب.
وفيه إثبات الحذر واستعمال سوء الظن وأن ذلك إذا كان على وجه طلب السلامة من شر الناس لم يأثم به صاحبه ولم يحرج فيه.
قال أبو داود: حدثنا قتيبة حدثنا الليث عن عقيل عن الزهري عن سعيد بن المسيب، عَن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين».
قال الشيخ: هذا يروى على وجهين من الإعراب أحدهما بضم الغين على مذهب الخبر ومعناه أن المؤمن الممدوح هو الكيس الحازم الذي لا يؤتى من ناحية الغفلة فيخدع مرة بعد أخرى وهو لا يفطن بذلك ولا يشعر به.
وقيل أنه أراد به الخداع في أمر الآخرة دون أمر الدنيا.
والوجه الآخر أن يكون الرواية بكسر الغين على مذهب النهي يقول لا يخدعن المؤمن ولا يؤتين من ناحية الغفلة فيقع في مكروه أو شر وهو لا يشعر وليكن متيقظًا حذرًا، وهذا قد يصلح أن يكون في أمر الدنيا والآخرة معًا والله أعلم.

.ومن باب في هدي الرجل:

قال أبو داود: حدثنا حسين بن معاذ حدثنا عبد الأعلى حدثنا سعيد الجريري، عَن أبي الطفيل قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت كيف رأيته قال كان أبيض مليحًا إذا مشى كأنما يهوي في صَبُوب».
قال الشيخ: الصبوب إذا فتحت الصاد كان اسمًا لما يصب على الإنسان من ماء ونحوه ومما جاء على وزنه الطهور والغسول والفطور لما يفطر.
ومن رواه الصبوب بضم الصاد على أنه جمع الصبب وهو ما انحدر من الأرض فقد خالف القياس لأن باب فعل لا يجمع على فعول وإنما يجمع على أفعال كسبب وأسباب وقتب وأقتاب، وقد جاء في أكثر الروايات كأنه يمشي في صبب وهو المحفوظ.
وقوله: «يهوي» معناه ينزل ويتدلى وذلك مشية القوي من الرجال يقال هوى الشيء يهوي إذا نزل من فوق إلى أسفل وهوى يهوي بمعنى صعد، وإنما يختلفان في المصدر فيقال هَوى هويًا بفتح الهاء إذا نزل وهُويًا بضمها إذا صعد.
أنشدني أبو رجاء الغنوي قال أنشدني أبو العباس أحمد بن يحيى:
والدلو في إصعادها عجل الهوي